تبدو حركة الإبداع القصصي والروائي الإماراتية اليوم أشدّ ما تكون نشاطاً وقوّة حضور. ولقد أفرزت هذه الحركة في السنوات الأخيرة مجموعة من الأسماء المبدعة التي انتقلت بالمنجز الإماراتي إلى مرحلة جديدة تميزت بالنضج والعمق، وزجت به في صلب المشهد الإبداعي العربي ليكون عنصراً أصيلاً وفاعلاً فيه.
والمتتبع للنشاط الإبداعي الإماراتي سيلاحظ أن الفنون السردية هي الأكثر هيمنة، سواء على مستوى الكتابة، أم على مستوى النشر، أم على مستوى الأمسيات والندوات والملتقيات التي تنظمها المؤسسات الثقافية المعنية، دون أن يعني ذلك الغض من شأن فنون أخرى كالشعر برموزه الكبار، ومنجزه الهام.
وبالطبع فإن الاختلاف حول أسباب الظاهرة يظلّ وارداً، بل أكيداً، وقد تتجه بعض وجهات النظر إلى الحديث عن عوامل ذاتية تتعلق بشخصية المبدع نفسه، وقد يتحدث بعض آخر عن عوامل موضوعية لها صلة بازدهار فنون السرد على مستوى العالم بأسره، وما تحظى به هذه الفنون من عناية كبرى تمثل الجوائز المغرية أحد وجوهها وحسب.
إن الخوض في الأسباب والعوامل ضروري بلا شك، لكن ما هو أكثر ضرورة وإلحاحاً أن يتم التفكير جدياً في مشروع ثقافي كبير بوسعه أن يستوعب هذه الحركة النشطة، ويعبر عنها، ويستجيب لحاجاتها.
لقد تجاوز السرد الإماراتي مرحلة البدايات منذ وقت طويل، وأصبحت الحاجة ماسة بالفعل لقيام مؤسسة تمتلك ما يكفي من الإمكانات لرصد منجزاته، وإخضاعها للدراسة والتحليل، كما تمتلك القدرة على تنظيم أنشطة نوعية من شأنها أن تكون مساحة يلتقي فوقها المبدع الإماراتي بمبدعي الثقافات الأخرى في عملية تفاعل من المؤكد أنها ستكون خصبة ومثمرة.
ولعل من أقرب المقترحات التي يمكن أن تخطر في الذهن ضمن هذا السياق أن يتم إنشاء (بيت للسرد) على غرار بيوت الشعر في كل من الشارقة والفجيرة وأبو ظبي، دون أن يعني ذلك استنساخ التجربة ونقلها كما هي من عالم الشعر إلى عالم السرد.
فبالإضافة إلى أن لكل من الفنين طبيعة مختلفة تقتضي أن يكون ثمة اختلاف أيضاًً في آليات العمل والتنظيم، فإن بيوت الشعر التي سبق ذكرها لا تزال تعاني من مشكلات ينبغي التنبه إليها والعمل على تجنبها. وباستثناء بيت الشعر في أبو ظبي الذي أنشئ حديثاً، ولم تتبلور ملامحه بعد، فإن بيت الشارقة أثار الكثير من علامات الاستفهام نتيجة توجهاته المحافظة التي أقصت وعلى نحو متعسف الكثير من التيارات الشعرية الفاعلة وذات القيمة الفنية العالية، كما أن أنشطته في معظمها لم تكن بالسوية المرتجاة، واضطر في الآونة الأخيرة بعد أن هجره الكثير من المبدعين إلى الاضطلاع بدور الراعي للمواهب الشابة، وهو الدور الذي نظن أن ثمة مؤسسات أخرى أنشئت أساساً لأدائه. أما بيت الشعر في الفجيرة فقد اختار لنفسه أن يهتم بالشعر النبطي أو العامي أو المكتوب باللهجة المحلية، وقد يكون ذلك بدافع الرغبة في أن تكون له خصوصيته التي تميزه عن سواه..
وبالعودة إلى فنون السرد يمكن التوقف عند التجربة المهمة التي قدمها نادي القصة في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات. والواقع أن النادي يكاد يكون المؤسسة الثقافية الوحيدة التي تخصصت في التعامل مع هذه الفنون. وقد استطاع رغم إمكاناته المحدودة، وعدم تفرغ أي من أعضائه لقيادته، ورغم غياب أي إطار تنظيمي واضح يوجهه في عمله (مع أن المحاولات التي بذلت لتجاوز هذا النقص كانت مستمرة على الدوام)، أن يواصل حضوره الفاعل والمؤثر على مدى سبعة عشر عاماً دون أي انقطاع. وتمكن النادي في سنواته الأخيرة من أن يعطي لأنشطته بعداً إقليمياً وعربياً، وأقام فعاليات نوعية كبرى سواء في الإمارات أم خارجها، كما تمكن من إطلاق دورية رصينة متخصصة بفنون السرد، لعلها الوحيدة من نوعها في المنطقة.
إلا أن نادي القصة لا يستطيع أن يقوم بمهام (بيت السرد) الذي ندعو إلى إنشائه سريعاً، فالنادي محكوم بجملة عوامل لن تمكنه من أن يقدم أكثر مما قدّم، فهو قائم في الأصل على أن يكون نادياً للشباب الذين ما زالوا يتلمسون طريقهم في عالم الإبداع، أضف إلى ذلك أنه مرتبط على نحو مباشر باتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وهو أحد جمعيات النفع العام التي تعاني كثيراً من قلة الموارد، وتعتمد على العمل التطوعي والمبادرات الفردية، في حين أن (بيت السرد) كما نتصوره مؤسسة مستقلة مبنية على أطر واضحة، ويقوم على إدارته والتخطيط لأنشطته، جهاز إداري وفني متفرغ ومسؤول.
وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى أن ملتقى السرد السابع الذي نظمته دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة منذ عدة أشهر أصدر مجموعة توصيات لمّح في بعضها إلى ضرورة إنشاء مثل هذه المؤسسة، وفي تقديرنا أن تفعيل مثل هذه التوصية يبدو ضرورة ملحة لمواكبة حالة النهوض التي تعيشها فنون السرد في الإمارات. ولعل في صدور هذه التوصية عن إحدى الفعاليات التي رعتها دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة بالذات إشارة جادة إلى نية الدائرة في مواكبة مسيرة التطور التي تشهدها الفنون السردية في الإمارات، كما فعلت من قبل عندما أنشأت بيتاً للشعر عندما كان الشعر سيد الفنون على الساحة. وإذا حدث ذلك فسيكون فيه سبق وريادة يحسبان للدائرة أو لأي جهة تتبنى المشروع، تماماً كما كان لآخرين شرف السبق والريادة في إطلاق فكرة بيت للشعر.
ـ إسلام أبو شكير
* عن: